مدير مركز «الميزان»: العقوبات الأمريكية وسام شرف ولن تُسكت صوت الضحايا
عصام يونس: واشنطن تحمي مجرمي الحرب الإسرائيليين وتعاقب الضحايا
في ظل حرب الإبادة التي يعيشها قطاع غزة منذ نحو عامين، وما خلفته من عشرات آلاف الشهداء والجرحى، غالبيتهم من النساء والأطفال، تتزايد أهمية المؤسسات الحقوقية الفلسطينية التي نذرت نفسها لتوثيق الجرائم والانتهاكات، وفضح ما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي من مجازر بحق المدنيين العزل.
غير أن هذا الدور لم يرُق للولايات المتحدة، التي أقدمت على خطوة عدّها كثيرون غير مسبوقة، حين أعلنت فرض عقوبات على ثلاث منظمات فلسطينية بارزة لحقوق الإنسان، بينها مركز «الميزان». وهو قرار وصفته الأوساط الحقوقية والدولية بأنه محاولة فاضحة لإسكات الأصوات التي تطالب بالعدالة والمحاسبة، وتوفير غطاء سياسي لمجرمي الحرب الإسرائيليين، عبر تجريم الضحايا بدلاً من معاقبة الجناة.
وفي حواره مع «جسور بوست»، يكشف مدير مركز الميزان لحقوق الإنسان، عصام يونس، أبعاد القرار الأمريكي وتداعياته على عمل المؤسسات الحقوقية الفلسطينية، ويشرح الدور الذي تقوم به هذه المؤسسات في إيصال صوت الضحايا إلى المحاكم الدولية.
ويتحدث يونس، عن أبرز الجرائم والانتهاكات التي وثقها المركز منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، وعن مستقبل المجتمع الفلسطيني في ظل الحرب والتدمير الممنهج لمقومات الحياة.
وإلى الحوار..
لماذا فرضت الولايات المتحدة عقوبات على مركز الميزان؟
قرار الإدارة الأمريكية الذي يفرض عقوبات على مركز الميزان طال 3 منظمات فلسطينية لحقوق الإنسان، والسبب في ذلك هو تعاملها وتعاونها مع المحكمة الجنائية الدولية وتزويدها بمعلومات وحقائق حول ما ارتكبته قوات الاحتلال وما يُرتكب -حتى الآن- في قطاع غزة. وهذا القرار غير قانوني وغير أخلاقي وغير ديمقراطي، كونه يمس مؤسسات حقوقية لا علاقة لها بالسياسة، مؤسسات مهنية لها حضور واحترام دولي ومحلي وإقليمي، وعقود من العمل والمهنية في فلسطين. ويأتي في سياق إخراس كل الأصوات التي تطالب بالعدالة والمحاسبة وعدم إفلات المجرمين من العقاب، وهو حلقة في سلسلة طويلة طالت المحكمة الجنائية ذاتها باستهداف المدعي العام كريم خان وقضاة من المحكمة وبعض العاملين في ملف التحقيق على لائحة العقوبات.
في تقديرك.. ما الهدف الخفي وراء فرض العقوبات عليكم؟
الهدف هو توفير الغطاء السياسي لمجرمي الحرب الإسرائيليين، ورفض إخضاع ما تقوم به دولة الاحتلال من جرائم، وعلى رأسها الإبادة الجماعية، للتحقيق، والحيلولة دون ملاحقتها ومحاسبتها على جرائمها في الأراضي الفلسطينية. والقرار بالغ الخطورة بالنظر لما ينطوي عليه من أثر على عمل هذه المؤسسات، وسوف يطول آخرين إذا بقي دور المجتمع الدولي على ما هو عليه. والتسليم بهذه القرارات يعني أنه سيطول كل من يحاول الدعوة للعدالة والمحاسبة في الأراضي الفلسطينية.
والقرار شهادة على أننا في الطريق المهني والصحيح، والقضية التي نعمل من أجلها هي قضية الإنسانية المشتركة التي تستحق أن تُشد لها الرحال ويُقدم لها العمل المطلوب، طريق العدالة طويل لا يتحقق بضربة قاضية بل بالتراكم، لكن حتى الطريق السلمي أمام الضحايا الفلسطينيين لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين تغلقه الولايات المتحدة من خلال منع محاسبة المجرمين، ولو وصل الأمر إلى تقويض عمل المحاكم الدولية ونقل العالم من شريعة القانون إلى شريعة الغاب.
وكيف أثرت جهودكم في سير إجراءات المحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بالوضع في فلسطين؟
على مدى سنوات -كوننا مؤسسة حقوقية- نقوم بتوثيق ما يُرتكب من جرائم في الأراضي الفلسطينية وفق الأصول المهنية، وقدمناها إلى مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق فيما يُرتكب من جرائم، والوصول إلى الضحايا والحصول على المعلومات، وهذا جزء من عملنا بهدف إعمال ميثاق روما واحترام القانون الدولي وملاحقة مرتكبي جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية. وكان لنا دور في تزويد المحكمة بهذه الانتهاكات التي وثقناها في قضايا مختلفة، وهي برسم المحكمة والفاعلين الدوليين لملاحقة من اقترفها.
ما أبرز الانتهاكات التي وثقتموها منذ بداية العدوان على غزة؟
أبرز هذه الانتهاكات والجرائم: قتل المدنيين وتدمير الممتلكات، والمشهد القائم الآن في غزة، واستخدام التجويع والتعطيش سياسة رسمية، وإجبار سكان القطاع على النزوح وقتلهم كل يوم رغم نزوحهم عشرات المرات.
لقد وصل الأمر إلى أن قوات الاحتلال تسيطر على قرابة 90% من قطاع غزة وتضغط على السكان المدنيين للتكدس في 10% فقط من مساحة القطاع، ودفعهم إلى المواصي، وهي أصلاً منطقة غير مأهولة وليست سكنية، فضلاً على تدمير المستشفيات واستهداف المرافق الطبية والمدارس والجامعات والمساجد وآبار المياه والبنى التحتية. وهي عملية إبادة تطول كل مكونات المجتمع، 65 ألف شهيد غالبيتهم من النساء والأطفال، و165 ألف جريح، وتدمير عشرات آلاف الوحدات السكنية وكذلك تدمير خطوط إمداد المياه، ونحن نوثق كل هذا، وكذلك آثار الحصار المفروض على القطاع وعدم السماح بدخول الوقود والاحتياجات الأساسية للسكان ومولدات المستشفيات ومحطات المياه.
كل هذه القائمة الطويلة من الجرائم وثقنا الكثير منها، ولأنها هائلة وغير مسبوقة فهي بحاجة إلى جيوش من العاملين في حقوق الإنسان ليستطيعوا توثيقها.
ما تقييمكم لأثر هذه الحرب في مستقبل سكان غزة؟
للحرب آثار بالغة الخطورة على الفلسطينيين الآن وفي المستقبل: تقتيل وتدمير مختلف مكونات المجتمع، عشرات آلاف الشهداء والجرحى غالبيتهم نساء وأطفال أصبحوا ذوي إعاقة، وأجيال أخرى قادمة كثيرة سوف تعاني من نتائج الحرب، كذلك تدمير المرافق التعليمية والعملية التعليمية برمتها.
وهذا هو العام الثالث من دون مدارس في القطاع -ورغم محاولات إعادة إحياء العام الدراسي فإنه يبدو مستحيلاً؛ فلا توجد اتصالات ولا إنترنت ولا إمكانية للتعليم عن بعد، وهذا سوف يترك آثاراً بالغة الخطورة في المجتمع.
الوضع الاقتصادي والاجتماعي أيضاً وتدمير المنازل له تأثير كارثي في المستقبل، وهذا يتماشى مع الهدف الإسرائيلي المعلن للحرب وهو تهجير سكان قطاع غزة، وهو واضح منذ بداية الحرب: جعل الحياة مستحيلة في غزة عبر تدمير كل مقوماتها لإجبار الفلسطينيين على مغادرة أرضهم، تجويعاً وتعطيشاً وقتلاً، والهروب من الموت إلى الموت، وكلها أسباب وشروط لا تحدث صدفة ولكنها منظمة لجعل الحياة مستحيلة.
العدوان على غزة تهديد لمستقبل الفلسطينيين ومجتمعهم. لكن حتى هذه اللحظة تم إفشال هذا المخطط بالموقف المصري الصلب الذي رفض التهجير وحال دونه ووضع كل الشروط -حتى الآن- لإيقاف هذا المخطط الخطِر، وأيضاً صمود الفلسطينيين وتمسكهم بأرضهم، وقد بدا ذلك واضحاً في بداية العام وقت الهدنة ووقف النار، حيث شاهدنا العودة من الجنوب إلى الشمال في مشهد بالغ الأهمية يحمل رسالة بأنهم سوف يبقون في أرضهم مهما كانت الظروف.
كيف تفسرون الموقف الدولي الباهت أمام حجم الجرائم والانتهاكات في غزة؟
جريمة الإبادة تُبث على الهواء، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يدعي أنه لا يعرف ما حدث وما يحدث حتى الآن. وعدم تدخل المجتمع الدولي حتى الآن بخطوات عملية لوضع حد لما يُرتكب من جرائم، والتضحية بالمدنيين المحميين بموجب قواعد القانون الدولي، يُظهر العوار القائم في النظام الكوني والنظام الدولي للعدالة، بدليل عدم وضعه حداً للإبادة، بل هناك كثير من دول العالم منخرطة في هذه الجريمة، والانخراط الفعلي ليس فقط بتزويد دولة الاحتلال بالسلاح، بل بتوفير غطاء لها أيضاً، ومن بينها عدم السماح بملاحقة مجرمي الحرب وإعمال مبدأ المحاسبة وغيرها من الإجراءات، حرب غزة كاشفة عن هذه الازدواجية في المعايير وهذا التوظيف الخطِر للعدالة وحقوق الإنسان بشكل سياسي.
ما الدور الذي تلعبه المصالح السياسية والاقتصادية في صناعة هذا الصمت؟
500 رضيع وُلدوا وقُتلوا في هذه الحرب ولم يتحرك العالم. وهذا شيء مذهل يصعب تفسيره، ولكن أيضاً من حقنا القول إن هناك نظرة انتقائية استعلائية ترى أن الأبيض ابن حضارة سامية تنتج الأخلاق وحقوق الإنسان وغيرها، في حين أن الحضارة «الوضيعة» التي ينتمي إليها الفلسطينيون والعرب تنتج الإرهاب.
وهذه الحضارة «الوضيعة» بكل مكوناتها السكانية تُعد حمولة زائدة على البشرية، وربما التخلص منها ليس مشكلة كبيرة. وإلا كيف يمكن تفسير هذا التسامح مع قتل الرضع؟ إنه سقوط أخلاقي مروع لأوروبا والعالم.
برأيك، هل تحولت الأمم المتحدة إلى مجرد شاهد عاجز على حرب الإبادة أم أن هناك إمكانية لإعادة تفعيل دورها؟
الأمم المتحدة تُعبر عن إرادة الدول مجتمعة، لكنها لم تقم بدورها بالشكل المطلوب، وحتى وكالاتها في غزة، فقد قُتل عدد كبير من موظفيها وعمال الإغاثة، وجزء من حرب الإبادة هو إخراج وكالة الأونروا من غزة، وهي التي تعمل منذ نكبة 1948، وتم إخراجها من الشرعية واعتبارها غير قانونية في محاولة لتصفية القضية بشكل عام.
الأمم المتحدة أيضاً مؤسسة سياسية، لكن مجلس الأمن الذي يحتكر صنع القرار استخدم الفيتو الأمريكي 43 مرة لأجل دولة الاحتلال ومنع أي محاسبة لإسرائيل.
لكن يجب القول: إن حرب غزة أيقظت ما هو كامن في الضمير الإنساني، العالم الذي يشاهد الإبادة الجماعية على الهواء، لم يعد يستطيع التعايش مع هذا الفجور، ورأينا التضامن الواسع في الجامعات العالمية والشوارع والعواصم الغربية، وحتى داخل الولايات المتحدة نفسها، وهو تطور بالغ الأهمية حطم جداراً صلباً من عدم الاقتراب من الفلسطينيين وقضيتهم.
الآن أصبحت هذه القضية والمشاهد اليومية في حضور الجميع، والعالم الحر تفاعل مع ذلك، ويمكن استغلال هذا الدعم، وهناك مواقف أوروبية رسمية حتى لو جاءت متأخرة، لكنها مهمة لأنها تهشم جدار الصمت المريب، وهذا سيكون له ما بعده.
وكيف تقيمون الموقف الغربي الذي يدعم حقوق الإنسان في أوكرانيا مثلاً في حين يتغاضى عن الجرائم ضد الفلسطينيين؟
الازدواجية القائمة في العالم أصبحت فضيحة أخلاقية. في الوقت الذي يتم فيه الدفاع عن أوكرانيا وتقديم الدعم الهائل من كل المجموعة الدولية لها، وفرض العقوبات على روسيا، يتعرض الفلسطينيون للإبادة ويواصل العالم توريد السلاح لإسرائيل والمتاجرة معها حتى إن مخازن الجيش الإسرائيلي تمتلئ دون طلب منه، وهذا خطر كبير على الاستقرار والأمن والتعاون الدولي.
وكيف تؤثر هذه الازدواجية الغربية في مصداقية منظومة حقوق الإنسان الدولية؟
النظام الكوني كله بحاجة للتغيير نحو نظام أكثر عدالة. الأمم المتحدة بشرت بالسلام قبل 80 عاماً، وكان شعارها أن ما حصل في الحرب العالمية الثانية لن يتكرر، لكنه تكرر في رواندا وفيتنام وغيرها، ويتكرر الآن في غزة بشكل أكثر فظاعة. وهذا يعني انتهاء هذا النظام العالمي.
بالعودة إلى القضاء الدولي.. كيف تنظرون إلى دور المحكمة الجنائية الدولية، وهل يمكن التعويل عليها في ظل الضغوط السياسية الغربية؟
سوف نبقى في اشتباك مع المؤسسات الدولية لأجل الضحايا، والاستمرار في العمل مع هذه المنظمات والمحاكم الدولية ومؤسسات ومرافق الأمم المتحدة، والمطالبة بالمحاسبة ورفع الأذى عن الفلسطينيين، والعمل مع كل الشركاء في العالم لتغيير هذا النظام الذي وصل إلى نهايته المحتومة.
العدالة لا تتحقق بالضربة القاضية، ولكن عبر مجموعة نقاط، ويجب علينا أن نحسن استغلال أدواتنا. الفلسطينيون شعب تحت الاحتلال، ومقاومة الاحتلال حق مشروع في القانون الدولي. وللفلسطينيين كامل الحق في رفض الاحتلال والمطالبة بإنهائه.
ولدينا قرار من محكمة العدل الدولية (الرأي الاستشاري) الذي يقول إن الاحتلال غير شرعي ويجب إنهاؤه، وأن للفلسطينيين حق تقرير المصير، وأن على الدول الأطراف الثالثة أن تفعل كل ما من شأنه ألّا يطيل عمر الاحتلال.
ما تصوركم لطريق الفلسطينيين نحو العدالة والحرية؟ هل هو قانوني بحت أم مقاومة متعددة الأبعاد؟
نحن -المؤسسات- سنواصل العمل القانوني والسياسي والحقوقي لإنهاء الاحتلال، ولكن مقاومة الاحتلال حق مشروع للفلسطينيين، ويجب دائماً احترام قواعد الحرب مهما كانت الشروط والأسباب، ونحن أمام لحظة فارقة في التاريخ ستؤسس لما بعدها، لأن حرب غزة كشفت أن النظام العالمي برمته أصبح عاجزاً عن القيام بواجباته التي أُنشئ من أجلها.